Thursday, March 27, 2025

Pause


مِن أين البِداية؟

كَيف أُعِيد لَملَمة شَتات رُوحي بعد أن بَعثرتها الأيّام؟
كَيف أُقنِع نَفسي أنّ هُناك طريقًا لم أطرُقه بعد، وأنّ الضّوء قد يكون أقرب مما أتصوّر؟

كُلّ شَيءٍ كان يبدو وكأنّه يَسير في دائرةٍ مُفرغة، كأنّني عالقٌ في نَفسِ اليوم مرارًا وتكرارًا. أستيقظ بنفس الثّقل في صَدري، بنفس الخمول في أطرافي، وأمضي يومي وكأنّني مُجرّد ظلٍ لشخص كان يومًا ما ممتلئًا بالحياة. كنت أتحاشى النّظر في المرآة كثيرًا، خشية أن أرى في عينيّ ذلك الانكسار الذي كنت أحاول جاهدًا أن أنكره

لم أعد أميّز الفرق بين الصّباح والمساء، بين اليوم والأمس، بين الواقع والذكرى. كنت أعيش على هامش الحياة، أراقبها تمضي من حولي بينما أقِف في مكاني، غير قادرٌ على التّقدم، غير قادرٌ على التّراجع. كنت أعتقد أنّني إن بقيت ساكنًا، فإن الألم سيتوقّف، لكنني اكتشفت أن الألم لا يحتاج إلى حركة ليكبر. الألم يتغذّى على الصّمت، على العزلة، على كل لحظة نقضيها ونحن نحاول الهروب منه

لماذا الزّمن لم يداوِ شيئاً؟
بل اكتشفت أنه يكتفي بالمراقبة، يمر دون أن يمدّ يده لينتَشِلنا ممّا نحنُ فيه. الزّمن ليس طبيبًا، ولا معالجًا نفسيًا، الزّمن مجرد شاهدٌ صامت، يسجّل كلّ شيءٍ دون أن يُعيد ترتيب الفوضى التي تركتها الأيّام في داخلنا. كنت أظنّ أنّني كلّما دفنت ذكرى، ستختفي آثارها، لكنها كانت تنبت من جديد كأشواكٍ في صدري، تُؤلمني كلّما حاولتُ التّقدم

كنت أسير في متاهة من أفكاري، كلّما ظننت أنّني وجدت مخرجًا، وجدت نفسي أمام باب يعيدني إلى البدايات ذاتها. كنت أعيش في سجنٍ بنيته بيدي، مقيدًا بذكريات كنت أود نسيانها، لكنها كانت ترفض الرّحيل، وكأنها جزء منّي، وكأنني لا أستطيع أن أكون أنا دونها

لم يكن الأمر سهلًا
ما كانت كل التجارب لطيفة
وبعضها تركت آثارًا دائمة، لا تُرى بالعين، لكنها محفورة في أعماقي، تذكّرني بحروب قد حاربتها وواجهتها. تذكرني بأيّام مرّت وأنا قد ظننت أنها لن تمر. تذكرني بنفسي في تلك الأيام، من كنت، كيف تصرّفت، وكيف علّمتني الحياة

لكن، من أين البداية؟

هل تكون حين أسامحُ نفسي على كلّ لحظة ضعف؟
أم حين أتصالح مع خيباتي وأعترف أنني لم أكنّ السّبب في كلِ ما حدث؟
هل تكون حين أتوقف عن الرّكض خلف الأمل، وأسمح له بأن يجدني؟

أدركت حينها أنني لم أعطِ نفسي الفرصة للنّمو، أنني كنت أقسو عليها أكثر مما يجب، كأنّني كنت أرى في نفسي العدو، كأنّني كنت ألومها على كل شيء حدث، حتى على ما لم يكن بيدي تغييره. أدركت أنني لست مجرد ندوبٍ وماضٍ ثقيل، وأنني أكثر من خيباتي وأخطائي

ربما لم أكن في الفريق الخاسر كما ظننت، وربّما لم يكن هناك فريق رابح وخاسر من الأساس. ربما نحن جميعًا مجرد عابرين، نحمل أمتعتنا الثقيلة على أكتافنا، نتعثّر، ننهض، ونحاول جاهدين أن نخلق من الحُطام بدايةً جديدة

لم يكن اكتشافًا مفاجئًا، لم تكن لحظة استيقظت فيها وأنا شخص مُختلف، لكنّ كان هناك شعور خفيف، كنَسمة هواء دافئة وِسط بَردٍ قارس، شُعور بأنّ الحياة لم تنتهِ بعد، وأنّه ربّما، فقط ربّما، هُناك شيءٌ يَستحقُ أن أعيش مِن أجله

خَرَجتُ مِن أفكاري على صَوت خفيف لمطر يتساقط. نظرتُ مِن النافذة، رأيت الشّوارع تغتسل، وكأنّها تُحاول أن تمحو آثار الأيام الماضية، أن تبدأ من جديد. فتحتُ النافذة ومدَدَتُ يدي، شعرتُ بقَطراتِ الماء تُلامس جِلدي، باردة لكنّها مُنعشة، وكأنّها تَهمِسُ لي: ما زالت هناك أشياء جميلة عليك أنّ تعيشها

وَقفت هُناك للحظة، أراقب السّماء الرّمادية، أنفاسي مُتلاحقة، لكنّني لم أشعرُ بالاختناق كما كنت أشعر دائمًا. بل كان هناك شيء مُختلف، كأن روحي تتنفّس للمرّة الأولى منذ وقتٍ طويل

ابتسمت، لا لأحد، بل لنفسي. ولأول مرة لم تكن ابتسامتي ثقيلة، لم تكن مجرّد قناع أُخفي به ما بداخلي، بل كانت حقيقية، صادقة

ربّما البداية ليست محطّة نبحثُ عنها، بل لحظة نقرّر فيها أن نحيا رغم كلّ شيء

وربّما، فقط ربّما، لم تكن البداية يومًا بعيدة. ربّما كانت تنتظرني طوالِ الوقت، فقط كنت بحاجة إلى أنّ أراها

No comments:

Post a Comment

Pause

مِن أين البِداية؟ كَيف أُعِيد لَملَمة شَتات رُوحي بعد أن بَعثرتها الأيّام؟ كَيف أُقنِع نَفسي أنّ هُناك طريقًا لم أطرُقه بعد، وأنّ الضّوء قد...